07‏/03‏/2010

كفى تدميرا للبنية الحضارية لمدينة نابلس : Stop Destroying the Urban Fabric of Nablus City

م. شفيق بعارة – مهندس معماري حاصل على درجة الماجستير بالهندسة المعمارية - ومختص بالدراسات الحضرية و الحدائق .

لطالما لمنا الاحتلال على التدمير الذي يحصل على البنى الحضرية لمدننا وقرانا من خلال القيود و القوانين الجائرة التي شرعها خلال سنوات الاحتلال الطويلة وما تلا ذلك من ممارسات التدمير و الهدم و الحصار التي حولت مدينة نابلس من عاصمة فلسطين الاقتصادية إلى عاصمة للفقر والبطالة .

وكلنا نعرف أن البنية الحضارية لمدينة نابلس و خاصة البلدة القديمة ومحيطها التجاري تحمل أبعادا تراثية و ثقافية متعمقة في جذور التاريخ الفلسطيني قل نظيرها حول العالم , وتمثل اليوم اللبنة الأولى في صراع الهوية و الوجود مع الاحتلال الصهيوني وهذا ما اتضح أخيرا في محاولات الاحتلال فرض تاريخه الزائف من خلال قيامة بضم الحرم الإبراهيمي و مسجد بلال إلى قائمة مواقعه التراثية وربما ستطول القائمة بالمستقبل القريب .

لطالما بكينا كل مبنى أو جدار أو حتى نافذة قام الاحتلال بتدميرها خلال حملات الدهم و القتل التي قام بها طيلة سنوات الانتفاضة في البلدة القديمة , وربما كان عزائنا الوحيد في ذلك هو أن من يقوم بذلك عدونا اللدود , لكن أن ينتقل هذا التدمير من أيدي عدونا إلى أيدينا فهو أمر لا يقبل به عاقل .

ولا أريد أن اتهم أي فرد بالتقصير أو الفساد فلا شك أن كل من يعمل يخطئ , لكن للأسف الشديد لم تنمو لدينا بعد ثقافة الاعتراف بالخطأ والأخطر من ذلك أن الكثير ممن يخطئون يصرون على المغالاة في أخطائهم وزيادة الطين بللاً ,

واحد الأخطاء الكبرى التي وقعت فيها مدينة نابلس هي عملية بناء المجمع التجاري و مجمع التاكسيات الضخم في وسط المدينة , في مجموعة مخالفات صريحة للقوانين التي تنظم البناء في محيط البلدة القديمة من ناحية الارتفاعات و المساحة و الاستخدام , وساد سوء رؤية ضخم لطبيعة المشروع وموقعه غير المناسب بالنسبة لوظيفته كعقدة أساسية للمواصلات في منطقة تشهد أصلا اختناقات مرورية ضخمة , ولم يقف الخلل عند هذا الحد بل تعداه إلى الإهدار الضخم للمال العام من خلال التكلفة الضخمة للمشروع التي فاقت 35 مليون دولار تم تغطية معظمها بقروض لبنوك محلية و أجنبية زادت في عجز خزينة بلديتنا المثقلة أصلا بالديون, ولا يتوقع أصلا لعوائد المشروع أن تكفي لسدادها و لربما سينتقل المشروع في زمن ليس ببعيد من الملكية العامة إلى ملكية البنك الضامن ما لم يحدث تدخل من وزارة الحكم المحلي و المالية في الوقت المناسب .

ولم يقتصر الأمر عند ذلك الحد , فلقد سادت التصميمات المنفذة للمشروع الكثير من مواطن الخلل التي منعت المبنى من أداء وظيفته التي صمم لها , فمجمع التاكسيات الذي صمم ليحتل الطابق الثاني والثالث المفتوحين بحيث يتم تأمين التهوية المناسبة له , لم يؤمن له الأدراج و المصاعد المناسبة للعدد الكبير المتوقع من المواطنين من كبار و صغار وعجائز و بضائع.

مما دفع القائمين على المجمع إلى نقله إلى طابقي التسوية المغلقان من جميع الاتجاهات ويقعان أسفل منسوب الأرض وهما مخصصان لتوقف سيارات المواطنين لفترات طويلة , وقد ثبت من اليوم الأول للبدء بالعمل فيهما عدم وجود تهوية مناسبة تتلاءم مع العدد الضخم لسيارات التاكسي التي تنفث العوادم بشكل متواصل داخل حيزها ولا لتامين الهواء النقي والمناسب لتنفس العدد الضخم من المواطنين الذين يستخدمونه و هي غير مؤهلة أصلا لامتصاص الضجيج الضخم الصادر عن محركات السيارات , ودفعت شكاوى المواطنين من التلوث و الاختناق البلدية الموقرة إلى إيقاف العمل في المجمع لحين إيجاد الحل للمشكلة التلوث السمعي و تصريف غازات العوادم ذات النسب المرتفعة و السامة .

واستعانت مشكورة بعدد من المختصين لحل المشكلة الذين اشارو إلى التكلفة الضخمة للحلول المتوفرة للأشكال سواء من خلال التنفيذ أو تكاليف التشغيل على المدى البعيد من كهرباء و صيانة وفلاتر الخ ....مما سيزيد من ثقل الديون على ميزانية بلديتنا العامة .

وخرجت مجموعة من الاستشاريين بفكرة القيام بعمل نفق يصل بين المجمع واحد الشوارع الرئيسية الملاصقة له بما سيخفف من ضغط حركة السيارات على الشوارع المكتظة المحيطة به و إن كان لا يقدم حلولا جذرية لهذه المشكلة عوضا عن عدم حله للمشكلة الأساسية المتعلقة بالتلوث السمعي و الهوائي بالمشروع و تكلفته المرتفعة المقدرة بمئات آلاف الدنانير التي ستزيد في ثقل الديون على صندوق بلديتنا الموقرة , و تسببه بتدمير احد أهم المعالم الحضارية في منطقة الدوار ( برج الساعة الجديد ) الذي دمر بدون رجعة .

إلا أن أضرار هذا النفق الذي بات يعرف بالمرحلة الأولى لا شك محدودة جدا إذا ما قورنت بالأضرار المتوقعة لما يعرف بالمرحلة الثانية من المشروع والمرحلة الثالثة المقترحة من قبل احد الزملاء المهندسين له و التي تبناها رئيس بلديتنا الموقر في مقابلة إذاعية على إحدى القنوات المحلية , دون أن يدرك الأبعاد الحقيقية لها .

فهذه المشاريع التي تقوم على فكرة عمل أنفاق و أسواق تجارية أسفل منسوب أكثر المناطق حيوية في مدينة نابلس وزرع برج غريب في المتنفس الوحيد المتبقي في وسط المدينة وتحدث تغييرات ضخمة في المنطقة التي تمثل وجهها الحضاري يطلق عليها من قبل المختصين مشاريع راديكالية و هي في الغالب غير مدروسة بشكل جيد و ستؤدي إلى نتائج لا يحمد عقباها على المدى البعيد , و لا تزال مدن كبيرة في أوروبا و الولايات المتحدة تعاني من الآثار السلبية لمثل هذه المشاريع التي انتشرت فيها في ستينات وخمسينات القرن الماضي .

إن المشروع المقترح بمرحلتيه الثانية والثالثة سيؤدي إلى مصادرة البقعة الخضراء الوحيدة المتبقية في وسط المدينة و التي تعطيها تميزها ويحولها إلى مساحات أسمنتية جرداء مع كثير من الأجزاء أسفل منسوب الشارع التي لا يصلها نور الشمس و لا تصلح لنبات ولا حيوان . كما أن مشاريع المجمعات التجارية أسفل الأرض و الأنفاق و الدهاليز ثبت فشلها على المستويين العربي و الدولي , حيث تحولت هذه المساحات المعزولة إلى أماكن لالتقاء المجرمين و المتشردين و متعاطي المخدرات و أصبحت أوكارا للجريمة و أماكن تجمع للنفايات و القوارض و الحشرات ومكاره صحية استدعت الكثير من الدراسات التي عجزت عن إيجاد حلول حقيقية لها سوى الاكتفاء بإغلاقها أو هدمها و تجنب بنائها مستقبلا.

كما أن المشروع سيؤدي إلى تدمير العديد من الطبقات الأثرية المهمة التي تنتشر في المنطقة خاصة الرومانية و الكنعانية , ومن المعروف أن النفق المقترح بين المجمع و المستشفى الوطني يقع مباشرة مكان ملعب الخيل الروماني كما يظهر من الأجزاء المكتشفة .

هذا عوضا عن التكاليف العالية له التي لا توازي الفوائد المرجوة لهذه المشاريع و التي ستقتصر في الغالب على تحقيق مصلحة مجموعة ضيقة من التجار وأصحاب رؤوس الأموال على حساب الجمهور وراحته وعلى حساب الأموال العامة لدافعي الضرائب الفلسطينيين , كما سيلحق أضرارا لا يمكن إصلاحها بالقيمة الثقافية و الحضارية للنسيج الحضاري للبلدة القديمة خاصة من خلال مشروع البرج المقترح الذي سيشغل حيز الدوار الذي اشتهر لعشرات السنوات بنافورته و أشجار النخيل و شجيرات الورد قبل أن يتم تدمير معظمها خلال سنوات الانفلات الأمني .

و للأسف فان بلدية نابلس مثلها مثل كثير من المؤسسات المحلية الأخرى لم تصل بعد إلى المرحلة التي تتقبل فيها اشتراك قطاعات واسعة من المواطنين و المتخصصين في اتخاذ القرارات المصيرية و تبقي هذه القرارات في ايدي مجموعة ضيقة من الموظفين من مهندسين و إداريين و بيد مجموعة ضيقة و مغلقة من المهندسين ضمن ما يسمى باللجنة الاستشارية والذين مع احترامنا لتجاربهم و خبراتهم المميزة إلا أنهم ينتمون لفئة عمرية محددة تتمسك بأفكار معينه لا تمثل الواقع الهندسي العالمي والمحلي لا الاتجاه العام للجمهور .

وفي الختام أدعو إخوتنا في بلدية نابلس إلى فتح أبواب النقاش حول هذا المشروع على المستويين الاختصاصي الهندسي لجميع المهندسين بدون استثناء , والمستوى الشعبي للمهتمين , ومما سيسهم في توضيح الصورة بسلبياتها و ايجابياتها و سيسهم بكل تأكيد في إيجاد البدائل المناسبة و الحلول المثلى عوضا عن الوقوع في أخطاء و قع بها الكثيرين قبلنا .