20‏/02‏/2011

نابلس ومذبحة المناطق الخضراء




لست ادري ولكن يبدو أن اليوم الذي ستبكي فيه نابلس على أشجارها وحدائقها وبساتينها قد اقترب , تتسارع وتيرة البناء في غياب أي رادع قانوني أو مجرد تنظيم  لعمليات قطع الأشجار المعمرة , وتتقلص المناطق الخضراء باطراد .

بساتين نابلس الشهيرة بعيونها وأشجارها ما بين  نهاية شارع فلسطين و منتزه جمال عبد الناصر باتت تحتضر تحت جنازير الجرافات التي تشق التربة لبناء مبان خرسانية لا تراعي البيئة المحيطة ولا يتوفر فيها الحد الأدنى من مقومات الجمال المعماري , وهو ما وصفه احد الزملاء المعماريين بغابة من المباني الحجرية الموحشة التي لا تتفق حتى فيما بينها على معيار واحد للارتفاع أو التشكيل .

تلك المنطقة التي لو استغلت بالشكل الصحيح لشكلت رئة خضراء للمدينة و مصدرا هاما للجذب السياحي و الاقتصادي ليست وحدها التي تعاني , فكل المدينة بحواريها الجديدة و القديمة تفشى فيها هذا السرطان .

حزام نابلس الأخضر الذي كان يفترض أن يغطي أعالي جبل عيبال حسب المقررات التنظيمية السابقة شطب بجرة قلم من احد المسئولين لصالح بعض المنتفعين الجشعين الذين  استغلوا انخفاض قيمة الأراضي هناك لبناء ثروات على حساب الأجيال القادمة ,

بينما تختفي يوما بعد يوم حدائق البيوت الخاصة التي انتشرت بين عشرينات و ستينات  القرن الماضي بما فيها من أشجار و نباتات وتفاصيل معمارية بل وحتى مباني تمثل قيمة ثقافية عالية لصالح مبان سكنية تحمل الصبغة الاستثمارية التجارية  المتدنية الجودة دون رقيب أو حسيب , ولن أتفاجئ أن استيقظت ذات صباح قريب لأجد جرافات الاستثمار تقوم بهدم القصور الأثرية ذات القيمة المعمارية العالية في منطقة شارع النجاح القديم مثلا , فكله يهون في سبيل مصالح المستثمرين .

لم يقف الأمر عند هذا الحد فتحت شعار الحي أبقى من الميت  الذي يرفعه رأس الهرم الإداري لبلدية نابلس الموقرة  فلا مانع من إزالة الآثار القديمة( كما حصل في منطقة بليبوس الأوسط على سبيل المثال لا الحصر ) وذلك لمنع المستثمرين من الهروب من المدينة على حد تعبيره , وللأسف فأن بلدية نابلس و نخبة مهندسي المدينة القدامى التي تصر على تسميتهم بلجنتها الاستشارية لازالوا يشكلون العائق الأساس في وجه تطبيق العديد من القوانين و التعديلات على أنظمة البناء حتى المتعلقة بالسلامة العامة , تحت ذات شعار الحفاظ على المستثمرين .

فلعيون الاستثمار كل شيء يهون , بل وحتى المناطق الخضراء العامة مثل المتنزهات أصبحت عرضة لمشاريع الخصخصة التي غزت الحدائق و المتنزهات العامة فكادت تحولها كافة إلى مشاريع ربحية خاصة , بدء من  منتزه سما نابلس إلى حديقة منتزه العائلات , مرورا بالحديقة الدنماركية و حديقة إسعاد الطفولة وحديقة الحرش , و التي فقدت جميعها صفة الحديقة العامة و أصبح الدخول إليها مقيد سواء من ناحية تقييد دخول احد الجنسين أو ربطه بدفع دخولية مهما كانت رمزية أو ربط الجلوس بها بدفع مقابل خدمة لأحد المتضمنين .

وبصراحة لم يبقى في نابلس متنفسا حرا  للغالبية العظمى من سكان  محافظة نابلس ال 250 ألفا إلا حدائق جمال عبد الناصر بمساحتها المتواضعة التي لا تتعدى الثمانين دونما بعد أن تم اقتطاع مساحة كبيرة لصالح مدارس الوكالة و أخرى لصالح مركز حمدي منكو الثقافي .

وهذه الثمانين دونما ليست عاملة بالكامل ففقط  15 دونم منها مزروعة بأشجار مناسبة  , كما وتخلو من استثمار و استغلال المقومات الطبيعية  التي وهبها الله للمنطقة , فماء  أربعة ينابيع تتدفق من البساتين إليها لازال يحول إلى شبكة المجاري العامة بدلا من استخدامه بالري أو بعمل عناصر معمارية مائية مثل بركة أو نوافير تزيد رونق المكان .

وغزا المكان العديد من الباعة المتجولين للمشروبات و السجائر و الاراجيل الذين سيطر كل مجموعة منهم على إحدى زوايا الحديقة بغير وجه حق  فحولوها إلى ما يشبه المقهى الكبير في أيام الصيف المكتظة , فلم يعد فيها مكان يجد فيه المرء خاصة من الطبقات الفقيرة و المتوسطة الدنيا ملتجأ من قيظ الصيف .


المضحك المبكي أن احد زوايا الحديقة يحوي مشتلا تابعا للبلدية , توظف به العديد من الأفراد الذين لم يقوموا منذ سنوات عديدة بزراعة شجرة واحدة في هذا المنتزه , ناهيك عن مجموعة منهم تقتصر مهمتهم على تهذيب الأشجار في شوارع المدينة   و العناية بها , وهو الأمر الذي على ما يبدو مرتبط بأهواء بعضهم الذين للأسف لا يراعون أي قاعدة علمية في القص و التهذيب أو حتى احترام الموسم المناسب .
وهؤلاء نفسهم هم من انطلقوا في الأيام الأخيرة في حملة مسعورة لقطع العديد من الأشجار المعمرة في شوارع المدينة  تحت حجج ومبررات واهية تارة لزيادة عرض الشارع أو بحجة مرور ماسورة الصرف الصحي لإحدى العمارات من أسفل الشجرة , بدءا من الأشجار بمقابل مركز شرطة المدينة الرئيسي في الجزيرة الوسطى مرورا بأشجار السرو في رفيديا مقابل الطريق المؤدي إلى ملعب البلدية , مرورا بالأشجار  على الرصيف أمام برج نابلس قيد الإنشاء انتهاء بالأشجار  أعلى الرصيف المقابل لقاعة زينة برفيديا ( أمام وكالة متسوبيشي سابقا ) , وهو ما يذكرني بحملة سابقة لتدمير النوافير  التي كانت تزين  شوارع المدينة في التسعينات بدءا من دوار المول في رفيديا مرورا بأخر شارع سفيان وصولا إلى الدوار الرئيسي في ميدان الشهداء .

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل خرجت علينا بلديتنا الموقرة في الآونة الأخيرة بمسابقة معمارية تهدف إلى تحويل المتنفس الأخير ( حدائق جمال عبد الناصر) إلى مشروع استثماري ربحي  يصادر البقعة الخضراء الأخيرة ويحولها إلى منطقة ترفيهيي خاصة بالأثرياء و أبناء الطبقة الوسطى العليا , فلست ادري كم ستحتمل هذه ال 80 دونما ,  من مشروع متحف ومسرح ومطعم و ناد خاص و مسجد أخر يضاف إلى ثلاثة بمحيط المتنزه على حساب دافع الضرائب الفلسطيني , بل وحديقة للملاهي  وبركة للقوارب , ولعل مقترح المسابقة نسي إضافة مشروع حديقة للحيوان  وجامعة نموذجية .

فألا متى سيبقى مستقبل مدينتنا الحبيبة رهينا بيد ومطرقة الاستثمار و إلى متى سيتسلط مهندس بلديتنا الأوحد في الأجيال الثلاثة الماضية  على مركز القرار  , أسئلة عديدة أوجهها إلى أبناء مدينتي الحبيبة , فهل من مجيب قبل فوات الأوان .


المهندس المعماري شفيق أمين بعارة